ليست "نونا" كسابقاتها، لاتشبه "نون" النسوة مثلا، ولا النون في اية كلمة عربية، "نون" اخرى مختلفة لم يفكر بها مخترع الهجاء العربي، بالضبط لم يفكر بان تكون لها وظيفة اخرى غير ما شاع منها في كلام العرب ومن نطق بلغتهم، ولا "عنترة العبسي"، الشاعر الجاهلي الاسود، فكر باخرى واخرى عندما انشد نونيته " ياطائر البان قد هيجت أشجاني"، وحتما لم تكن حاضرة في مطالع سور القران، كتاب الله الذي يحارب الجميع، الان ومن قبل، تحت رايته، ويدعون نصرته كانت له نونه الباهرة"نون والقلم وما يسطرون ما انت بنعمة ربك بمجنون"، فلم يخرج، قيد انملة، عن الاشارات المنتجة للتواصل الانساني، حتى الجواهري، فكر بنون ثانية، نون ارتبطت عنده، او بادق بنونيته الاكثر اسى في الشعر العراقي الحديث، بما تذكره من البلاد في منفاه المزمن، على مهل استعاد "العجوز" بلاده قطعة فقطعة، بل صورة فصورة، فتراه يستعيد "دجلة الخير" بازاء صورتها ك"ام البساتين"، حتى "الثعابين" التي يختم "الجواهري" رائعته بها تظهر في سياق ذاكرة الشاعر كعزاء متفرد، او ان شئت قل: كتذكير بمصير الشاعر الشخصي في مواجهة ثعابين البلاد، وما اكثرها، وهو العارف بها، الخبير بمواجتها، فيما تظل البلاد في نونيته، او في ذاكرته المختلطة بذاكرة بلاده هبة النهرين، تماما مثلما ان مصر هبة النيل، العراق هبة الخالدين: دجلة والفرات. في نونيته لا تظهر مدينة بعينها، بغداد مثلا، التي يشطرها دجلة شطرين، بل لا تجد للعاصمة ذكر فاعل فيها على الرغم من ان صورة دجلة كنهر رئيس، بل كايقونة اوضح ما يكون في بغداد، انما تتعمد "نون" الجواهري ان تظهر البلاد كزخم لا ينتهي من الصور المؤلفة كارشيف للغائب المفقود.
لكنها "نون" اخرى مما رسمه البرابرة على بيوت المسيحيين في الموصل، "نون" اخرى تفارق اشارات الحرف كونه "حرف الجبل" اي طرفه. والحرف ايضا هو الوجه الواحد، ومنه "ومن الناس من يعبد الله على حرف" اي على وجه واحد، وهو ان يعبد على السراء والظراء . ولا تأخذ كثيرا من تصور "الجاحظ" للغة كاشارة، وهي، كذلك، اشارة مشبعة بكراهية لافتة، خاصة ومعلبة، الاحرى ان نتحدث عن كراهية عابرة للامم والثقافات، كراهية مستوردة خصيصا مثلما يكتب على الماركات التجارية : خصيصا لنا، لبلادنا الخائبة، بلادنا المنكوبة بالقتلة الماجورين، وبالصدفة العمياء"هل هي حقا عمياء ام نحن العميان؟"، وبكثير من الحروب الطائشة التي تحدث بالمصادفة وتضع اوزارها بالمصادفة ايضا. في الانثروبولوجيا دائما من يتحدث عن انظمة القرابة وحدود المحروم والمباح، وكذلك ثمة من يبحث، بل ثمة من يفكر بالمكروه في اية ثقافة: المكروه لونا، المكروه جنسا، المكروه دينا، في القران الكريم، مثلا، هناك تشديد بالغ الصرامة على توصيف اليهود كشعب، او امة، او قبيلة مكروهة، بكلمة واحدة: اليهود كاعداء، في مقابل صورة النصراني الكتابي، النصارى المحشورون حينا في خانة المكروين، وغالبا كنصارى يجري تبريزهم كاتباع لاحقين بالنبي "عيسى بن مريم"، المسيح المسالم الطيب بعيدا عن صورة العدو المكروه،. هذه الصورة المشكلة ثقافيا عبر سرديات تشغلها، بالضرورة، فكرة الهوية وتصادماتها كانت، ولاتزال، بعيدة عن صورة المسيحي، وان انشغلت السرديات الوسطى بفكرة العدو المسيحي النصراني وابدتها، الى حين، الحروب الصليبية، لكنها ظلت جزءً من كراهية الاخر المستعرة والمتداولة حد الاسفاف في طبعات الاسلام المختلفة بعيدا عن القران وسردياته. الاخر المختلف دينيا"اليهودي اولا، والنصراني ثانيا، والصابئي حديثا، ولاحقا اثينيا"الشيعي بدرجة رئيسة، في الاقل سياسيا"، وقوميا"الكرد في العراق، بظهور الدولة الحديثة في العراق وغيره، هذا الاخر كان العدو الابرز للدولة الحديثة، او هكذا ارادت الدولة الحديثة ان توهمنا: اننا شعب واحد نملك تاريخا واحدا وذاكرة واحدة. في العراق البلاد التي ادخلت في حضيرة الاسلام" اهي صدفة ان يغيب، دائما، الارث الديني للعراق قبل الاسلام؟" نجحت سرديات الدولة الحديثة في اجراء تحويل مغر في دلالات الاخر وحدود الكراهية. تحولت دلالة الاخر من المختلف دينيا"اليهودي، والمسيحي"، والمختلف اثنيا"الشيعي" الى الاوروبي المحتل الخالي، غالبا، من البعد الديني او الاثيني، بريطانيا المحتلة للعراق كانت العدو الاول للعراقيين عامة، فيما شغلت فكرة اصلاح الدولة واعادة تاسيس المجتمع سياسيا حيزا كبيرا في سرديات الاحزاب العراقية، لاسيما اليسارية منها. اغلب الظن ان ذلك التحويل كان وراء انجازات ثقافية اجتماعية كبرى سرعت من خطى تحديث العراق كبلاد خارجة من حطام العثمنة، وجعلته، في الاقل، حتى انقلاب "1958" البلاد الاكثر طموحا لتحديث نفسها، واستعادة دورها المفقود، وسمحت، تاليا، لاعداء الامس ان يكونوا قوة ثقافية رئيسة في رسم صورة العراق الحديث، لنتامل مساهمة اليهود حتى تهجيرهم، وتاليا، المسيحيين في اخراج العراق من الصورة النمطية كبلاد تطحنها الخلافات والصراعات السائبة الى فضاءات الدولة الحديثة التي تخطط وتقترح حياة مدنية لرعاياها. لندع الشوفونيين والمغالين، طمعا وتزلفا لليهودي والمسيحي الاوروبي فيما يكتبون من تواريخ تخترقها اكاذيب شتى عن يهود ومسيحيي العراق، ولنتذكر دور الاثنين في اقتراح وترسيخ طرائق حديثة من التفكير والكتابة، بل وايجاد سبل ملائمة للحياة في العراق، والاهم انهما، وبالاخص المسيحيين، قد اصبحا النموذج المرغوب للحياة الحديثة في العراق، بل ان صعودهما الثقافي، في الاقل، قد رحل صورة "العدو" اجتماعيا وسياسيا للمحتل الاجنبي حينا، وللحكومات المتعاقبة حينا اخر.
النون المرسومة بخط احمر تستعيد بكراهية مازومة الصورة التالفة للعدو الديني، تماما مثلما حدث مع اليهود بعيد تهجيرهم الذي لم ينجح قبل ان يتحولوا الى اعداء، بل ان اسرائيل نفسها لم تنجح ان تصبح دولة الا بعد ان اقنعت اليهود انهم اعداؤنا. الان ياتي دور المسيح، عفوا النصارى بنون حمراء بلون الدم، نون مختلفة عما كان يكتب على جدران بيوت بغداد عامي"2007-2008" باكس ترسم سريعا مع رصاصة تترك عند مدخل الدار، اللافت ان تلك الاكس لم تكن لتميز مسيحيا عن شيعيا عن سنيا، كانت تستهدف المختلف دينيا وايثنيا، لا تميز فان الجميع مستهدف، مثلما ان الجميع خلا المسيحي، بالطبع، قد اصبح عدوا للاخر. ثمة تحول في رمزية الاداة وفي الهدف كذلك. في نون النصارى هناك تاثيث رمزي للعدو، ولا ادري لماذا لا اتحدث عن رمزية الاشهار، ان تجهر بعدائك للمختلف. في تهجير شيعة الموصل والشبك جرى الامر سريعا حتى انك تفهم، بعد حين، معنى ان يفر الانسان بجلده، بينما تظهر نون النصارى ان ثمة تمهل، ثمة مهلة ، ثمة جزية، وجميعها تصنع بروية صورة مشتهاة للعدو.
نون النصارى صورة اخيرة بمشهد بانورمامي لخراب العراق الاخير، صورة جرى استبعادها مرارا في عهد البعث، انذاك مثل صعود الديكتاتور الابادة الاكثر شمولا ورعبا في تاريخ العراق الحديث، الديكتاتور الطامح لاختراع نموذجه الفذ من العرب الانقياء، عرب لم تلوثهم جاهلية اليهود ولا صنمية الشيعة. نجح الديكتاتور فيما اخفقت البلاد في حماية نفسها من الابادة، كان اليهود قد اصبحوا، بالفعل، اعداءً في المخيال السياسي العراقي الشعبي، فيما اصبح الشيعة اعداءً مؤكدين للدولة التي جرى دمجها طائفيا. فما الذي بقي من بلاد صنعتها ثقافات شتى، اقصد ماذا بامكان البلاد ان تصنعه لتمنع ابادة نفسها؟ لا شيء باسف يفطر القلب. انه الخراب الاشد فتكا، ملحمة الطوائف المرعبة، هولوكوست الاجنبي الذي ينجح في اختراع الاعداء مثلما ينجح بصناعة الخرائط والسرديات المثيرة. وسيكون علينا جميعا ان نتمثل اعداءنا جيدا، ان نجيد التحولات الممكنة، ان نلتذ بها، فما بعد العراق من امل سوى ظلام دامس سيجتاحنا جميعا، فليس اسهل من تحويل الاخر الى عدو، بل ليس هناك من مهمة اسهل من قتل العدو، الم يكتب احدهم" اعداؤنا يجب ان يكونوا أعداءنا". بعد نون النصارى ستشهد بغداد طوفانا اخر، طوفان الحروف: ارشيف الحكايات عن الاعداء المفترضين، الممكنيين، بل المختلفين قطعا عن بعضهم. سنكون امام "شين" الشيعي والكاف الكردي و"ميم" المرتد السني. ويخطئ من يظن انه بمجنى عن الطوفان، طوفان البلاد الاخير.